فصل: من فوائد أبي السعود في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} تلوينٌ للخطاب وصرْفٌ له عن اليهود إثرَ ما عُدَّت سيئاتُهم ونُعيتْ عليهم جناياتُهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، والهمزةُ لإنكار الواقع واستبعادِه كما في قولك: أتضرِبُ أباك؟ لا لإنكار الوقوعِ كما في قولك: أأضرِبُ أبي؟ والفاء للعطف على مقدّرٍ يقتضيه المقامُ ويستدعيه نظامُ الكلام، لكن لا على قصد توجيهِ الإنكار إلى المعطوفين معًا كما في {أفلا تبصرون} على تقدير المعطوفِ عليه منفيًا أي ألا تنظُرون فلا تبصرون؟ فالمُنْكَر كلا الأمرين بل إلى ترتب الثاني على الأول مع وجوب أن يترتَّبَ عليه نقيضُه كما إذا قُدِّر الأول مُثْبتًا، أي أتنظرون فلا تبصرون؟ فالمنْكَر ترتُّبُ الثاني على الأول مع وجوب أن يترتب عليه نقيضُه أي أتسمعون أخبارَهم وتعلمون أحوالَهم فتطمعون؟ ومآلُ المعنى: أبَعْدَ أنْ علِمتم تفاصيلَ شئونِهم المُؤْيِسةِ عنهم تطمعون؟ {أَن يُؤْمِنُواْ} فإنهم متماثلون في شدة الشكيمةِ والأخلاقِ الذميمة، لا يتأتى من أخلافِهم إلا مثلُ ما أتى من أسلافِهم، وأنْ مصدريةٌ حذف عنها الجارُّ، والأصلُ: في أن يؤمنوا، وهي مع ما في حيِّزها في محل النصبِ أو الجرِّ على الخلاف المعروف. واللام في {لَكُمْ} لتضمين معنى الاستجابة كما في قوله عز وجل: {فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ} أي في إيمانهم مستجيبين لكم، أو للتعليل أي في أن يُحدثوا الإيمان لأجل دعوتِكم، وصلةُ الإيمان محذوفةٌ لظهور أن المرادَ به معناه الشرعيُّ، وستقف على ما فيه من المزية بإذن الله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مّنْهُمْ} الفريقُ اسمُ جمعٍ لا واحد له من لفظه كالرهط والقومِ، والجار والمجرور في محل الرفعِ، أي فريق كائنٌ منهم، وقوله تعالى: {يَسْمَعُونَ كلام الله} خبرُ كان وقرئ: {كلِمَ الله}، والجملة حاليةٌ مؤكِّدة للإنكار حاسمةٌ لمادة الطمَع مثلُ أحوالِهم الشنيعةِ المحْكيةِ فيما سلف على منهاج قوله تعالى: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} بعد قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى} أي والحالُ أن طائفةً منهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم قومٌ من السبعين المختارين للميقات كانوا يسمعون كلامَه تعالى حين كلّم موسى عليه السلام بالطور وما أُمِرَ به ونُهيَ عنه {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ} عن مواضعه لا لقصورِ فهمِهم عن الإحاطة بتفاصيله على ما ينبغي لاستيلاء الدهشةِ والمهابةِ حسبما يقتضيه مقامُ الكبرياء بل {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي فهِموه وضبَطوه بعقولهم، ولم تبقَ لهم في مضمونه ولا في كونه كلامَ ربِّ العزةِ رِيبةٌ أصلًا، فلما رجَعوا إلى قومهم أدّاه الصادقون إليهم كما سمعوا. وهؤلاء قالوا: سمعنا الله تعالى يقول في آخر كلامه: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياءَ فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس، فثُم للتراخي زمانًا أو رتبةً قال القفال: سمِعوا كلامَ الله وعقَلوا مرادَه تعالى منه فأوّلوه تأويلًا فاسدًا وقيل: هم رؤساءُ أسلافِهم الذين تولَّوْا تحريفَ التوراة بعد ما أحاطوا بما فيها علمًا وقيل: هم الذين غيّروا نعتَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في عصره وبدّلوا آيةَ الرجْم، ويأباه الجمعُ بين صيغتي الماضي والمستقبل الدالِّ على وقوع السماعِ والتحريفِ فيما سلف إلا أن يُحملَ ذلك على تقدّمه على زمانِ نزولِ الآية الكريمةِ لا على تقدمه على عهده عليه الصلاة والسلام.
هذا والأول هو الأنسبُ بالسماع والكلام إذ التوراةُ وإن كانت كلامَ الله عز وعلا لكنها باسم الكتاب أشهرُ وأثرُ التحريفِ فيه أظهر، ووصفُ اليهودِ بتلاوتها أكثر، لاسيما رؤساؤُهم المباشرون للتحريف فإن وظيفتهم التلاوةُ دون السماع فكان الأنسبَ حينئذ أن يقالَ: يتلون كتابَ الله تعالى فالمعنى أفتطمعون في أن يؤمنَ هؤلاءِ بواسطتكم ويستجيبوا لكم والحالُ أن أسلافَهم الموافقين لهم في خِلال السوءِ كانوا يسمعون كلامَ الله بلا واسطةٍ ثم يحرِّفونه من بعد ما علِموه يقينًا ولا يستجيبون له؟ هيهاتَ. ومن هاهنا ظهر ما في إيثار لكم على بالله من الفخامة والجزالة.
وقوله عز وجل: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية من فاعل {يحرّفونه} مفيدةٌ لكمال قباحةِ حالِهم مُؤْذِنةٌ بأن تحريفَهم ذلك لم يكن بناءً على نسيان ما عقَلوه أو على الخطأ في بعض مقدِّماته بل كان ذلك حالَ كونهم عالمين مستحضِرين له أو وهم يعلمون أنهم كاذبون ومُفترون. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تَعبدون} [البقرة: 83] فجميع الجمل من قوله تعالى: {أفتطمعون} إلى قوله: {وإذ أخذنا} داخلة في هذا الاستطراد.
والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي على جملة {ثم قست} [البقرة: 74] أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم فكأنَّه قيل: فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فَاعْجَبُوا من طمعكم، وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} [البقرة: 87].
والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل أَنْ.
فإن قلت، كيف يُنهى عن الطمع في إيمانهم أو يُعَجَّب به والنبيء والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائمًا؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق عِلْمِ الله بعدم وقوعه؟
قلت: إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضًا، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسًا نيّرة فتنفعها، فإن استبعاد إيمانه حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلكَ المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما عَلِمَ الله عدَم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جوابًا واضحًا وهو أن الله تعالى وإن عَلِمَ عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما عَلمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيءْ بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أُمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهوأن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة التكليف بما علم الله عدم وقوعه، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعدَ ذلك حظ.
واللام في قوله: {لكم} لتضمين {يؤمنوا} معنى يُقِرُّوا وكأنَّ فيه تلميحًا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146] الآية فما أبدعَ نسج القرآن.
ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل {يؤمنوا} مُنزَّلًا منزلة اللازم تعريضًا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم.
وقوله: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله} جملة حالية هي قيدُ إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد عُلل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما عَلِمْناه، والثانية بالتقييد بما عَلَّمَنَاه.
وقوله: {فريق منهم} يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أومن الحاضرين في زمن نزول الآية.
وسماعهم كلامَ الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده.
أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام.
وأيًّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم.
والتحريف أصله مصدر حَرَّف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق، ولمَّا شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق.
قال الأشتر:
بقَّيْتُ وفْرى وانحرفتُ عن العُلا ** ولَقِيتُ أَضْيَافِي بوَجْهٍ عَبُوسٍ

ومن فروع هذا التشبيه قولهم: زَاغ، وحاد ومَرق، وألْحَد وقوله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج: 11].
فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به، إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف.
وقوله: {وهم يعلمون} حال من {فريق} وهو قيد في القَيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قومًا توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحدًا وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام: {ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا} [نوح: 27] وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائمهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغًا شنيعًا فاعلم أن العامة أفظع وأشنع، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [75].
{أَفَتَطْمَعُونَ} أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شئون أسلافهم المؤيسة عنهم: {أَن يُؤْمِنُواْ} أي: هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم، وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة، لا يأتي من أخلاقهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم. واللام في قوله: {لَكُمْ} لتضمن معنى الاستجابة. كما في قوله عز وجل: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، أي: في إيمانهم مستجيبين لكم، أو للتعليل أي: في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ} أي: طائفة فيمن سلف منهم: {يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ} وهو ما يتلونه من التوراة: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} قال ابن كثير: أي: يتأولونه على غير تأويله. وقال ابن جرير: يعني بقوله: {يحرفونه} يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه، أصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: {يحرفونه} أي: يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه، إلى غيره: {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي: فهموه على الجلية، ومع هذا يخالفونه على بصيرة: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله.
قال ابن جرير: هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام. وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغيًا وحسدًا. وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، والظاهر أن المراد، بالفريق منهم، أحبارهم، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى، من بعد، في قوله تعالى: {وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عِمْرَان: 187]، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].
ولقائلٍ أن يقول، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين. وأجاب القفال عنه فقال: يحتمل أن يكون المعنى: كيف يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادًا، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق، وهو قولك للرجل كيف تفلح، وأستاذك فلان؟ أي: وأنت عنه تأخذ، ولا تأخذ عن غيره.
ونحوه قول الراغب: لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم، فحقيق أن لا يحصل لمن غَبِيَ عن كل العلوم. فذكر ذلك تبعيدًا لإيمانهم لا يأسًا للحكم بذلك؛ إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسًا. ثم قال الراغب: وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط، بل يكون عنادًا وغلبة شهوة.
تنبيه:
ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة، فإنه واقع بلا ريب؛ فقد بدلوا بعضًا منها وحرفوا لفظة، وأوّلوا بعضًا منها بغير المراد منه، وكذا يقال في الإنجيل. ويشهد لذلك كلام أحبارهم، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه إظهار الحق: أن أهل الكتاب سلفًا وخلفًا، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبًا الأسماء في تراجمهم، ويوردون بدلها معانيها، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد، أنهم يزيدون تارة شيئًا بطريق التفسير في الكلام، الذي هو كلام الله في زعمهم، ولا يشيرون إلى الامتياز، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم، ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنةٍ مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة. ثم ساق بعضًا منها فانظره.
وفي ذخيرة الألباب، لأحد علماء النصارى، ما مثاله: إن بعضهم ذهب إلى أن الروح القدس لم يقِ الكتبة عثرة الخطأ الطفيف، ولا كفاهم زلة القدم حتى لم يستحِل أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات. وفيه أيضًا: إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافًا عظيمًا في أمر التاريخ. فإذًا تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن. وفيه أيضًا في الفصل 31: أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفًا وأربعة آلاف غلطة، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ. انتهى.
فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها. وهو المقصود.
وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها، فهو إفراط. قال الحافظ ابن حجر في آواخر شرح الصحيح في باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21].
إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل. من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] الآية. ومن ذلك قصة رجم اليهوديين وفيه وجود آية الرجم، ويؤيده قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عِمْرَان: 93].
وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات. فارجع إليه. اهـ.